الإسلام عظيم أن يكون المرء التزم به، وعظيم أن يكون المرء قد أَجْهَدَ نفسه وجاهد نفسه في أن يكون على حقيقة الإسلام، ولكن لن يكون ذاك إلا بالعلم، فالعلم النافع به يَصلح القلب وبه يَصلح العمل، ولهذا قال الله -جلَّ وعلا-: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف:108]، ومعنى ﴿ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾ يعني على علم؛ لأن البصيرة للقلب هي العلم الذي به يُبْصِرُ حقائق المعلومات ويُدرك الصواب فيها، وقال الله -جل وعلا-: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾ [الأنعام:122]، وقد قال أهل العلم: إن هذا النور هو الإسلام الذي هو العلم النافع والعمل الصالح. ولهذا لم يأمر الله -جل وعلا- نَبِيَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمته من بَعْدِه أن يَزْدَادُوا من شيء شيئًا إلا أن يَزدادوا من العلم، فقال جل وعلا في سورة طه: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه:114]. رفع الله أهل العلم على سائر المؤمنين لما حَصَّلُوه من العلم، فقال جل وعلا: ﴿يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة:11]، فكل مؤمن يرفع الله -جل وعلا- بإيمانه، وكل صاحب علم صحيح من أهل الإيمان فإنه مرفوع على غيره درجات، وهذا من فضل الله -جل وعلا- على أهل العلم. وطالب العلم إذا سلك العلم، إذا سلك هذا الطريق؛ فإن الله يُسَهِّلُ له به طريقا إلى الجنة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح (وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً؛ سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَىَ الْجَنّةِ)، وذلك أنَّ طريق الجنة يكون بصحة الاعتقاد ويكون بصحة العمل، وصحةُ الاعتقاد لا تكون إلا بعلمٍ، وصحة العمل لا تكون إلا بعلمٍ، فَـ (مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْم): مَنْ عَلِمَ التوحيد أو عَلِمَ الفقه والحلال والحرام؛ (سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَىَ الْجَنّةِ)؛ لأن الجنة من أسباب دخولها صحةُ العمل وصحة الاعتقاد. ومن فضل العلم أنَّ العالِم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء؛ لأنه سبَّح وهلَّل ومَجَّدَ الله وعَظَّمَ وأثنى عليه وسار في اتباعه لمحمد -عليه الصلاة والسلام- عن يقين وعلم ومعرفة، وهذا يكون به الكمال -كمال المخلوقات- فيكون أَوْلى المخلوقات بالفضل والرِّفعة والقُربى من الله -جل وعلا-. لهذا تَعْرِفُ الأشياء فَضْلَ طالب العلم وفضل العالم فيستغفر له كلُّ شيء حتى الحيتان في جوف الماء. ثم لأن كل هذه الأشياء التي جعلها الله -جل وعلا- غير مكلَّفة تعرف فضل العالم الذي يُعلِّمُ الناس الخير والذي يَبُثُّ في الناس محبة الله -جل وعلا-، والعلم به وأسمائه وصفاته، وما يستحقه جل وعلا من التوحيد، وما يستحقه جل وعلا من التعظيم، وما يستحقه نبيه -عليه الصلاة والسلام- من المحبة والمتابعة والعلم بسنته والاقتداء به، فحينئذ يكون ممن ينشر في العالَم محبة الله -جل جلاله- والعلم به، وهذا شيء يَفْضُلُ به العالم ما سواه من الكائنات، لهذا يستغفر له كلّ شيء رِضًا بما يصنع، حتى الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع؛ لعظيم عمله. لهذا إذا علمتَ بعض هذه الأشياء؛ فإنك تُقبل إقبالا شديدا على العلم في حفظه وتَدَارُسِه وحضور حِلَقِ العلم ومعرفة ذلك؛ لأنَّ هذا لا يَرْغَبُ فيه إلا مؤمنٌ صحيحُ الإيمانِ، ولا يَرْغَبُ عنه إلا كل مفرق، وكل من جاهد نفسه في العلم؛ فإنما يجاهد نفسه في صلاح قَلْبِه وصلاح عمله، والعالم أو طالب العلم إذا أَذْنَبَ؛ فإنَّ استغفاره ليس كاستغفار سواه؛ لأنه إذا استغفر فيكون استغفاره عن علم وبَيِّنَةٍ، وعن معرفة بالله -جل وعلا- به وما يَسْتَحِقُّ، وعن معرفة بقُصُورِ نَفْسِه وما ارتكبه وما قَصَّرَ فيه. لهذا كان سَيِّدُ علماء هذه الأمة بعد نَبِيِّها -صلى الله عليه وسلم- هو أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- فعلَّمه نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن يَدْعُوَ في صلاته بقوله: (اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم)، فجعل هذا الدعاء لأبي بكرٍ الصديق، وهو الأكمل عِلْمًا، وعَمَلاً، وسلوكًا، وسابقةً، ومحبةً للنبي -صلى الله عليه وسلم- وخُلَّةً، فجعل له هذا الدعاء الذي فيه أعظم الاستغفار والإنابة من جهة عِظَمِ الاعتراف بالذنب، (ربي إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت). وكل طالب علم وعالم بِقَدْرِ معرفته بالله وعِلْمِه بالله -جل جلاله- وعِلْمِه بتفاصيلِ الشريعة، وعِلْمِه بتفاصيل حقِّ الله في الاعتقاد؛ فإنه يعظم عنده الذنب، بل تكون عنده بعض الأعمال مما يُوجِبُ الاستغفارَ ولو كانت عند غيره ليست مما يُوجب الاستغفارَ. ولهذا تَعْظُمُ درجةُ طالبِ العلمِ والعالمِ بِقَدْرِ ما اكْتَسَبَه من علم التوحيدِ وعلم العملِ في عِظَمِ استغفارِه وإنابته لله -جل جلاله-. وفي هذا الزمن ربما تَرَوْنَ أنَّ كثيرين أساءوا ظَنًّا بالعلم من جهة، بل من جهات؛ أساؤوا ظَنًّا بالعلم في ظَنِّ بعضهم أنَّ العلم لا فائدةَ مرجوَّة منه بقدر ما يَبْذُلُ منه الباذلُ. ومنهم من أساء ظَنًّا بالعلم في أنه إذا تَعَلَّمَ؛ فإنما سيكون في نهايته مثل غيره، ولن يكون من الأثر الشيء الكبير الذي يوازي تعبه في العلم. ومنهم من أَسَاءَ الظنَّ في العلم بأنَّ الأهمَّ هو الدعوةُ للناس والإرشاد والبذل ونحو ذلك، والعلم ليس في الأثر كأثر النشاط والدعوة ونحو ذلك. ومنهم من أساء ظَنًّا بالعلم في أنَّ العلم لن يكون لأصحابه شأنٌ، وأن الشأن يكون لغيرهم، إما من أهل الدنيا، وإما من أهل الاتجاهات المختلفة في هذه الحياة. وهذا –كله- من سوء الظن بالشريعة؛ لأن العلم هو الشريعة. والواجب على طالبِ العلم أنْ يُحْسِنَ ظنَّه بالله -جل وعلا-، وأن يُحْسِنَ ظنه في عمله للعلم، وأن يُحْسِنَ ظنَّه بالعلم والعمل جميعا، وأن يُقْبِلَ على ذلك. ولقد أحسن ابن القيم -رحمه الله-: والْجَهْلُ دَاءٌ قَاتِلٌ وشِفَـــاؤُهُ أَمْرَانِ فِي التَّرْكِيبِ مُتَّفِقَـانِ نَصٌّ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ مِنْ سُنَّـٍة وَطَبِيبُ ذَاكَ الْعَالِمُ الرَّبَّانِـي والْعِلْمُ أَقْسَامٌ ثَلاثٌ مَا لَــهَا مِنْ رَابِعٍ والْحَقُّ ذُو تِبْيَــانِ عِلْمٌ بِأَوْصَافِ الإلَـهِ وفعله وكَذِلَكَ الأَسْمَاءُ لِلدَّيـَّــانِ والأَمْرُ والنَّهْيُ الَّذِي هُوَ دِينُـه وجَزَاؤُه يَوْمَ الْمَعَادِ الثَّانِــي والكلُّ فِي الْقُرْآنِ والسُّنَنِ الَّتِـي جَاءَتْ عَنِ الْمَبْعُوثِ بالْفُرْقَانِ واللهِ مَا قَالَ امْرُؤٌ مُتَحَذْلِــقٌ بِسَوَاهُمَا إِلاَّ مِنَ الْهَذَيـَـانِ وقد قال أحد العلماء –أيضا- في شِعْرٍ له: لا تُسِئْ بِالْعِلْمِ ظَنًّا يَا فَتَى*** إِنَّ سُوءَ الظَّنِّ بالعلمِ عَطَب وهذا حقٌّ؛ فإنَّا جَرَّبْنا ورَأَيْنا في أنَّ كل من أساء ظنا بالعلم وتَخَلَّفَ عن سبيل حَمَلَةِ العلم ودَرَسَ ثم ترك ولم يستمر في العلم إلا كان أمره إلى غيرِ كمالٍ، فالعلم به كمال الروح، وبه كمال الاعتقاد، وبه كمال العمل، وبه كمال انشراح الصدر، وبه كمال رؤية الأشياء، وبه كمال الأمل في أن لا يَتَصَرَّفَ في شيء إلا على وصف الشريعة. وقد ذكر أهل العلم أنَّ من أسباب ضلال الضَّالِّين من هذه الأمة أنَّهم ضَلُّوا لأنَّهم لم يكونوا على علم صحيح، فالعلم الصحيح سبب من أسباب وِقَايَةِ الفتن ووقاية أسباب الضلال والافتراق، إلى غير ذلك من آثار ترك العلم. لهذا؛ أوصيكم –ونفسي- بالمحافظة على العلم وعلى حَمْلِه وحفظه وتدارسه، وأن يتعاهد المرء ما درسه، وأن يُقْبِلَ على ما لم يَعْلَمْهُ بأخذه من مشايخه الذين يُوثَقُ بهم في فَهْمِهم للعلمِ وفي أدائهم له؛ لأن هذا به -إن شاء الله تعالى- صلاح النفس وصلاح العمل. أسأل الله -جل وعلا- أن يَزيدنا –وإياكم- من الهدى والعلم، وأن يجعلنا من عباده الصادقين المخلصين، وأن يغفر لنا ذنوبنا إنه سبحانه جواد كريم. فضيلة الشيخ/ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ. |