لتحذير من " أدعياء " يشوشون على المسلمين كل عام في " رؤية الهلال " ! ( المقالات الفقهية )
المحرر : عبد الله بن زيد الخالدي - التاريخ : 2009-08-15 10:42:09 - مشاهدة ( 1130 )
فضيلة العلامة د. صالح بن فوزان الفوزان : الحمد لله الذي جعل الأهلة مواقيت للناس ، يعرفون بها أوقات عباداتهم وآجال معاملاتهم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا نعبد إلا إياه له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله . حدد لأمته بداية الصيام ونهايته ، فقال : ( صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا ) ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا . أما بعد :
أيها الناس : اتقوا الله تعالى واشكروه على تيسيره : ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ) . [ الحج : 78 ] ، ( مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) . [ المائدة : 6 ] .
ومن تيسير الله ورفعه الحرج عنا : أن حدد بدايات مواقيت العبادات ونهايتها بعلامات واضحة يعرفها كل أحد من العامة والمتعلمين .
ومن ذلك بداية شهر رمضان المبارك ونهايته ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ؛ فإن غم عليكم ؛ فأكملوا العدة ثلاثين ) ؛ فقد بين - صلى الله عليه وسلم - : أنه يجب الصيام والإفطار بأحد أمرين : رؤية الهلال ، أو إكمال عدة الشهر ثلاثين . وإذا رآه واحد من المسلمين عند دخوله ثبتت بداية الشهر ولزم المسلمين الصيام ، فليس من شروطه : أن يراه جماعة من الناس .
قال جابر - رضي الله عنه - : جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إني رأيت الهلال [ يعني : هلال رمضان ] : فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أتشهد أن لا إله إلا الله !؟ ) ؛ فقال : نعم ، قال : ( أتشهد أن محمدًا رسول الله !؟ ) ، قال : نعم ، قال : ( يا بلال ، أذن في الناس أن يصوموا غدًا ) . [ رواه أبو داوود ] .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : تراءى الناس الهلال ، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته ، فصام وأمر الناس بصيامه .
وأما الشهادة بخروج شهر رمضان فلا بد فيها من شهادة رجلين ، قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - : ( وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس بالصوم بشهادة الرجل الواحد المسلم ، وخروجهم منه بشهادة اثنين ) . انتهى .
وذلك - والله أعلم - ؛ لأن الدخول لا تهمة فيه ، فقبل فيه خبر الواحد ، ولأنه أحوط للعبادة ، وأما الخروج ؛ فلوجود التهمة فيه بالرغبة في الإفطار لم يقبل فيه إلا شهادة عدلين واحتياط للعبادة ، ولأن الأصل بقاء رمضان ، ولا يخرج عن الأصل إلا بيقين .
والأمر الثاني : مما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصام ويفطر بموجبه إكمال الشهر ثلاثين يومًا عندما لا يرى الهلال ؛ لأن الأصل بقاء الشهر واحتياطًا للعبادة في الخروج ، وإذا كان الأمر كذلك فإن من زعم أنه يصام ويفطر بغير هاتين العلامتين اللتين حددهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته ، كمن يقول : أنه يصام ويفطر بناءً على خبر الحاسب وخبر الفلكيين ، فقد زاد على ما شرعه الله ورسوله وأجمع عليه المسلمون ، زاد علامة ثالثة ابتدعها من عنده : ( وكل بدعة ضلالة ) .
فإن هناك جماعة من أدعياء علم الحساب الجهلة يشوشون على الناس كل عام ، ويشككون في رؤية الهلال ويغلظون من رآه ويتهمونه بالكذب إذا خالف تخرصاتهم ، ويريدون من المسلمين أن يبنوا صومهم وفطرهم على قول أهل الحساب ؛ لأنهم بزعمهم أضبط ، وفي هؤلاء يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( إني رأيت الناس في شهر صومهم ، وفي غيره - أيضًا - منهم من يصغي إلى ما يقوله بعض جهال أهل الحساب من أن الهلال يرى أو لا يرى ، ويبني على ذلك إما في باطنه ، وإما في باطنه وظاهره ، حتى بلغني أن من القضاة من كان يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكاذب أنه يرى أو لا يرى ، فيكون ممن كذب بالحق لما جاء ) - إلى أن قال - : ( فإننا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام : أن العمل في رؤية هلال الصوم ، أو الحج ، أو العدة ، أو الإيلاء ، أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبرِ الحاسب أنه يُرى أو لا يرى ، لا يجوز . والنصوص المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك كثيرة ، وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ، ولا خلاف حديث ) . انتهى .
وقول هؤلاء الجهال يعتبر بدعة في الدين ؛ لأنه مخالف لما أمر الله به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ، وفيه طعن بالشهود العدول ووصفهم بالكذب والزور ، وفيه بلبلة لأفكار العوام ، وتشويش على المسلمين ، وفيه طعن في القضاة واتهامهم بالتساهل في قبول شهادة الشهود ، وفيه إبطال لحكمهم بذلك ، وفيه طعن في ولاة أمور المسلمين الذين ينفذون حكم القضاء ، ويأمرون الناس بالصوم والفطر بموجبه .
وهذا الذي يقولونه مع أنه يتضمن كل هذه المحاذير وأكثر منها فيه تعريض لصيام المسلمين وإفطارهم للخطر فإن عمل الحاسب عرضة للخطأ ، لأنه عمل بشري ، ولا يخلوا من التعرض ، وهو - أيضًا - إحراج وتضييق لأن الحساب لا يعرفه كل أحد ، ولا يتوفر المختصون فيه في كل زمان ومكان لو فرضنا صحة الأخذ به وسلامته من الخطأ وهو فرض بعيد .
وديننا مبني على اليسر والسهولة - والحمد لله - لا تعقيد فيه ، ولذلك أحال المسلمين في فعطرهم وصيامهم على علامة واضحة يعرفها كل أحد وفي كل مكان وزمان ، للحاضرة والبادية ، للجماعات والأفراد ، للمتعلمين والعوام ؛ فالحمد لله على التيسير ؛ فلا تغتروا - أيها المسلمون - بما يقوله هؤلاء فإنه شذوذ وجعل وشرع دين لم يأذن به الله .
صوموا مع جماعة المسلمين وأفطروا ؛ كما أمركم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في قوله : ( صومكم بوم تصومون وفطركم يوم تفطرون ) . [ رواه الترمذي وغيره ] .
وقال الإمام أحمد وغيره : ( يصوم ويفطر مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحو والغيم ) .
وقال : ( يد الله على الجماعة ، ولو قدر أن المسلمين اجتهدوا في تحري الهلال ليلة الثلاثين فلم يروه ؛ فأكملوا الشهر ثلاثين ، ثم تبين بعد ذلك أنه قد رئي في تلك الليلة فإنهم يقضون اليوم الذي أفطروه ولا حرج عليهم وهم معذورون ومأجورون . وأما لو صاموا بخبر الحاسب ؛ فإنهم آثمون ولو أصابوا ؛ لأنهم فعلوا غير ما أمروا به ، ثم إن عملهم بقول الحاسب قد يؤدي إلى أن يصوموا قبل وقت الصيام ، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين ) .
قال - عليه الصلاة والسلام - : ( لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين ) . [ رواه أبو داوود ] ؛ كما أن عملهم بذلك قد يؤدي إلى أن يصام يوم الشك ، وهذا يخالف قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فإن غم عليكم ؛ فأكملوا عدة الشهر ثلاثين ) .
وقال عمار بن ياسر - رضي الله عنه - : ( من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - ) . [ رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي ، ورواه البخاري تعليقًا ] .
وقد يؤدي العمل بقول الحاسب إلى التأخر في الصيام عن أول الشهر .
قد يقول بعض المتحذلقين : أن العلم قد تطور ، ويعنون بالعلم تقدم الصناعة والمخترعات الحديثة والدراسات الفلكية ، ويقولون : إن علم الحساب قد تطور وصار بإمكان الحاسب أن يعرف ما إذا كان الهلال يرى أو لا يرى . ونقول لهؤلاء :
- أولاً : علم الحساب كان موجودًا من قديم ، ولم يعول عليه الشارع ؛ لأنه عرضة للخطأ والاختلاف ؛ فأهل الحساب لا يتفقون أبدًا .
- ثانيًا : العبادات توقيفية مدارها على الأمر بالمعروف والنهي ، وقد أمر الشارع بالصوم لرؤية الهلال ، والفطر لرؤيته ، ونهى عن الصوم والإفطار بدون رؤية الهلال ، وإكمال ثلاثين ، تيسيرًا على العباد ، وإبعادًا لهم عن الشكوك والأوهام علق الحكم على شيء محسوس ليس فيه مجال للاختلاف .
ولا مانع من استعمال الآلات التي تساعد على الرؤية كالمراصد والمناظر المكبرة إذا تيسر ذلك بدون تكلف ، ولسنا ملزمين بإيجادها واستعمالها ، لكن لو وجدت فلا مانع من الاستعانة بها .
فاتقوا الله - أيها المسلمون - ، وتقيدوا بما شرعه الله لكم ؛ فإن فيه الكفاية والهداية .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) . [ البقرة : 189 ] .